سارتر وسيمون وكامو وحنا آرندت عملاء ثقافيون.. فضيحة ثقافية في «عالم حر»


فى «عالم حر.. الفن والثقافة فى الحرب الباردة» هل يمكن للثقافة أن تحرك الجغرافيا السياسية؟
الهدف الرئيسى للكتاب هو السؤال: إذا كانت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتى أنتجت كل هذا الفن الذى تبنته أمريكا.. فهل تنتج الحرب الباردة مع الصين الآن أدبا جديدا؟
يخصص الكتاب عدة صفحات للأنشطة السرية لوكالة المخابرات المركزية ورعايتها للآداب والمثقفين.. فى كتاب يركز على تحليل السيرة الذاتية والثقافية للحرب الباردة
الوجودية وفرت مفردات لاستياء الطبقة الوسطى.. حيث تبنى الشباب لغة «القلق وسوء النية».. وكان على ألبير كامو ترويج مصطلحات «العبث والتمرد واللا جدوى»
جزء من مهمة أوائل رواد الحرب الباردة هو إثبات أن الفنانين والكتاب والمثقفين فى أمريكا مستعدون للقيادة العالمية التى فرضت عليهم
كيف صنعت أمريكا البنيوية وما بعد البنيوية ومعاداة الشيوعية والعدمية والوجودية والواقعية فى الشئون الدولية والتعبيرية التجريدية فى الفن الرفيع
تسبب الإدراك بأن جوزيف ستالين كان يقتل مئات الآلاف من مواطنيه فى أزمة ضمير لدى اليسار وخرجت من تلك الأزمة بعض الأعمال الأدبية بما فى ذلك جورج أورويل
1984 رواية يتم تقديمها كنقد مجرد للشمولية وغالبًا ما يتم تقديمها لطلاب اليوم على أنها كفاح من أجل الحرية مع أنها نقد للحياة فى ظل الحرب
قبل أن تقرأ:
إذا كنت مؤمنا بالثقافة، فلن يجرح هذا الكلام إيمانك، فالثقافة كانت ـ وستظل ـ أنبل ما أنتج الإنسان فى صراعه مع تحدياته المادية، وكل الشخصـيات والمـذاهب الأدبيـــة والفكــرية، الوارد اسمها فى هذا الموضوع لا ذنب لها فى استغلال الأمريكيين لها، ولهم، فى صراعهم مع الاتحاد السوفيتى أثناء الحرب الباردة، فأمريكا دائماً ما تفعل ذلك، تستغل كل شىء لمصلحتها، تنشأ الوجودية، مثلا، فتستغلها، يشتهر كاتب فتتبناه، مع أنها لم تخرج من أرضها مذهبا أدبيا أو فكريا واحدا، باستثناء البراجماتية، كل ما حاولناه هنا هو نقل اعتراف الأمريكيين أنفسهم، باللعب فى الحقـــل الثقافــى، واستـغلاله سياسيا، وبرغم ذلك ستظل الثقافة هى التعبير الأسمى عن جوهر الإنسان بصرف النظر عمن يستغلها فى أغراضه السياسية.
كتاب لويس ميناند الجديد «عالم حر»، مع عنوان فرعى: «الفن والثقافة فى الحرب الباردة»، يغطى فترة كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أثبتت الليبرالية الأمريكية قوتها وبريقها من خلال خلق مجتمع منفتح بما يكفى لتعزيز التبادل الحيوى فى عالم الثقافة والفن والأفكار، وكذلك الدعم الذى قدمته أمريكا لرجال الثقافة وللتيارات الثقافية، وانتهت تلك الحقبة فى الستينيات من القرن الماضى، حيث أدت التحديات فى الداخل والخارج إلى الشك فى مفهوم الولايات المتحدة عن ذاتها، باعتبارها بؤرة «العالم الحر».
على الرغم من أن العنوان الفرعى لميناند، يربط هذه الفترة من الابتكار الثقافى بالحرب الباردة، فإن العلاقة التى يتخيلها بين التعبير الفنى والجغرافيا السياسية غالبًا ما تكون واهية، تصارع كبار الفلاسفة والمفكرين الأكاديميين مع مصير العالم، لكن ليس بالضرورة بطرق تميز صراحةً الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتى.
حين اكتشف الكتّاب، والمفكرون، والملحنون، والرسامون، ومصممو الرقصات، الرعب الوجودى لعالم ما بعد الحرب النووية، لكنهم لم يميلوا إلى التأثير فى أى اتجاه سياسى معين، هنا جاء دور الدبلوماسى الأمريكى جورج كينان، وغيره من الواقعيين فى الحرب الباردة، لوضع الخطوط الفارقة فى هذا الصراع، على رأس أولويات العمل الأمريكى الجديد (يسميه المؤلف «اللوثايان» الأمريكى الجديد واللوثايان: وحش مائى خرافى أو الحوت الضخم، تعبيرا عن امريكا الجديدة).
يقول ميناند: إن «العالم الحر»، كان شعورًا ودافعًا وشكلًا من أشكال التعبير، أكثر من أى نوع من العمل السياسى المتماسك»، ويقول بيفرلى جيج الذى عرض الكتاب فى عدد يناير، من مجلة فورين أفيرز: على الرغم من أسلوبه الانطباعى، يتحدث كتاب ميناند بقوة، عن أحد أهم الموضوعات فى السياسة الأمريكية فى القرن العشرين: الطرق التى أعادت بها الحرب الباردة - وشبح الشيوعية - تشكيل المجتمع الأمريكى من أعلى إلى أسفل، كما أوضح مؤرخون مثل مارى دودزياك، وجليندا جيلمور، فإن النضال من أجل الحقوق المدنية بعد الحرب، كان مرتبطًا بالمناقشات حول الشيوعية وثورة العالم الثالث، وتم تطوير دولة الرفاهية فى الولايات المتحدة أيضا، بنماذج اشتراكية كنقاط مرجعية لا مفر منها، لطالما كان واضحًا أن المشاعر المعادية للشيوعية، قد قيدت طموحات السياسة الليبرالية، فى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضى، عندما تم الاستهزاء بالرعاية الصحية الشاملة باعتبارها «طبًا اجتماعيًا».
ويضيف جيج: غالبًا ما تنطوى رؤية ميناند الثقافية، على ربط صريح بين تلك النقاشات الجيوسياسية، وعالم الثقافة الرفيعة، ففى دنيا الثقافة كانت الحرب الباردة لا مفر منها، فى المجال الأكاديمى، أدى تدفق الأموال الفيدرالية إلى الجامعات، مدفوعًا بمنافسة المعرفة فى الحرب الباردة، إلى إعادة هيكلة الحياة الفكرية للخير والشر.
فى جانب معتنقى اليسار - حسب ميناند - أدى الانهيار الداخلى للجبهة الشعبية، جنبًا إلى جنب مع الأجواء القمعية للمكارثية، إلى شعور جيل كامل بالاغتراب وخيبة الأمل.
جلبت دوامة الجغرافيا السياسية، الآلاف من الفنانين والمثقفين الأوروبيين، الرائدين إلى الولايات المتحدة، حتى فى الوقت الذى كان فيه التبادل الثقافى مع الاتحاد السوفيتى، وأوروبا الشرقية مشحونًا بشكل متزايد، ربما الأهم من ذلك كله، أن الحرب الباردة المبكرة أعطت إحساسًا بالحيوية والمخاطر الكبيرة لكل ما يحدث تقريبًا فى الفنون والأفكار الأمريكية، عالية ومنخفضة، حيث شرعت الأمة فى إعلان ثم الفوز بحرب ثقافية عالمية.
يتتبع هذا الكتاب، الحياة الفكرية لأربعة رجال مثقفين: أوليفر، ويندل، وهولمز جونيور، وويليام جيمس، وتشارلز ساندرز بيرس، وجون ديوى، الذين التقى الثلاثة الأوائل منهم فى نادٍ فكرى من ابتكارهم معًا، وفقًا لميناند، اخترعوا البراجماتية، وغيروا الليبرالية الأمريكية، وتصدوا لبعض من أعظم الأسئلة فى عصرهم.
يمتلئ كتاب «عالم حر»، أيضًا بمواجهات وعلاقات إبداعية ومناقشات على العشاء، توسع فيها ميناند، ليقدم العشرات من المثقفين، كل فصل يغوص فيه بعمق فى محادثة جماعية، تجمع بعض أهم المفكرين والملحنين والكتّاب والفنانين والدبلوماسيين الحكماء فى الغرب، وفى الولايات المتحدة، أولئك الذين صنعوا الجمال، والمعنى من قلب عالم كانت فيه الهولوكوست، والقوة النووية، وأيديولوجية الحرب البارد تلوح فى الأفق.
فى هذه العملية الفكرية - كما يقول «ميناند» - أنتج هؤلاء المفكرون والفنانون، مجموعة خاصة بهم من «المذاهب»: البنيوية وما بعد البنيوية، معاداة الشيوعية والعدمية والوجودية، وما يعرف بالواقعية فى الشئون الدولية والتعبيرية التجريدية فى الفن الرفيع.
بشكل مثير للدهشة، وجد هؤلاء لأفكارهم الغريبة وغير المفهومة - حيث الغموض علامة ثقافة رفيعة - جمهورًا شعبيًا لتأملاتهم الأفكار مهمة اللوحة مهمة الأفلام مهمة الشعر مهم، أصبحت لوحات التنقيط لجاكسون بولوك أيقونات وطنية وفرت الوجودية مفردات لاستياء الطبقة الوسطى من قبل الفيلسوف جان بول سارتر، تبنى العالم لغة «القلق، الأصالة، سوء النية» ومن صديق ومنافس سارتر ألبير كامو، تبنى العالم ومثقفوه مصطلحات «العبث، التمرد والاغتراب».
أكثر الأبطال حيوية فى كتاب «ميناند»، هم اللاجئون الأوروبيون الذين أجبرتهم الظروف، على الفرار إلى الولايات المتحدة، وسعت أمريكا (بدرجات متفاوتة)، لتحقيق أقصى استفادة منهم أولا، وصلت المنظِّرة السياسية ألمانية المولد حنا آرندت، إلى نيويورك عام 1941، هى بالكاد تتحدث كلمة واحدة بالإنجليزية، وصل عالم الأنثروبولوجيا كلود ليفى شتراوس فى نفس العام، واستغل عرض وظيفة فى المدرسة الجديدة، كشريان حياة للخروج من فرنسا التى احتلها النازيون.
وفى أواخر الثلاثينيات، وأوائل الأربعينيات من القرن الماضى، قام العشرات من كبار المفكرين والفنانين والكتّاب برحلات مماثلة، وكان العديد منهم يهودًا فروا للنجاة بحياتهم حسب أحد التقديرات، انتقل أكثر من 700 من الفنانين التشكيليين الأوروبيين، مثل الرسامين والنحاتين والمصورين إلى الولايات المتحدة، بين عامى 1933 و 1944 وعند وصولهم، شكلوا مجتمعات نابضة بالحياة لمواصلة أعمالهم وسواء أحبوا ذلك أم لا، فإن معظمهم أصبحوا أمريكيين بطريقة أو بأخرى.
كان المواطنون المولودون فى الولايات المتحدة، جزءًا من المزيج الثقافى أيضًا، بالطبع ووفقًا لميناند، كانت إحدى نقاط الإثارة فى هذا العصر، هى إتاحة الفرصة للأمريكيين للاختلاط، وتبادل الأفكار مع أفضل ما يمكن أن تقدمه أوروبا قبل الحرب، حدثت مثل هذه التبادلات فى الغالب فى باريس، مركز الثقافة الغربية بلا منازع.
ما دفع بالنهضة الثقافية فى مدن مثلك شيكاغو ولوس أنجلوس، وقبل كل شىء، نيويورك فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى، هو القلق الأمريكى العميق، بشأن ما إذا كانت الإنجازات الفكرية والفنية للولايات المتحدة جيدة أم لا سواء كانت، باختصار، جديرة بالمكانة الجديدة للبلاد كقوة عظمى عالمية والمدافع اللدود عن الديمقراطية الليبرالية.
كتب ميناند: «فى عام 1945 كان هناك شك واسع النطاق، حتى بين الأمريكيين، حول قيمة وتطور الفن والأفكار الأمريكية»، كان جزء من مهمة أوائل رواد الحرب الباردة، هو إثبات أن الفنانين والكتاب والمثقفين فى أمريكا مستعدون بالفعل للقيادة العالمية التى فرضت عليهم.
لم تؤد صراعات القوة الناعمة فى الحرب الباردة، إلى نهاية الدعاية المرهقة والتلاعب الخفى، هذه الأشكال الفظة من الإمبريالية الثقافية، ليست من اهتمامات ميناند، إنه يتعامل مع الجوانب الأكثر تعقيدًا لثقافة الحرب الباردة، حيث سعى الأمريكيون إلى الإعلان عن الحيوية الفنية لبلدهم، والانفتاح على الأفكار الجديدة، عن طريق زيادة التناقض مع منافسيهم الاستبداديين.
ما جعل الولايات المتحدة ما بعد الحرب عظيمة، كما يقترح ميناند، كان الاستعداد - على الأقل داخل المؤسسة الليبرالية - للتفكير فى عيوبها وإخفاقاتها، قد يكون هذا الميل نحو نقد الذات فى نهاية المطاف، هو العيب المأساوى فى تصميمات ميناند فى منتصف القرن، لكن بينما دامت الحرب، أدى الجمع بين الطموح الإمبراطورى والفردية الليبرالية، والتبادل عبر الأطلسى، والثراء الاجتماعى، إلى إنتاج كتب ولوحات ومؤلفات موسيقية رائدة، الأهم من ذلك هو حفلات الاستقبال والعروض والمعارض التى تنتج الإلهام والكيمياء (وكما يقول ميناند، الكثير من الجنس).
قام الأمريكيون بتحريك الكتاب، من سارتر وسيمون دى بوفوار، إلى ديانا وليونيل تريلينج، إلى ألين جينسبيرج ونيل كاسادى، تحيط بهم مجموعة رائعة من المبدعين والمفكرين، كل منهم يستعير أفكارًا من الآخرين، كتب ميناند عن الفنان روبرت راوشنبرج: شجاع وغزير الإنتاج، لكن تم تعزيز فنه وتأثيره من خلال ارتباطه بثلاث شخصيات مبتكرة أخرى اشتهرت أيضًا عالميًا: جون كيج (الراقص ومصمم الرقصات) ميرس كانينجهام، و (زميل الفنان) جاسبر جونز « يحتوى كل فصل تقريبًا على صياغة مماثلة، حيث يصادق مثقف أمريكى أحد هؤلاء المفكرين المهاجرين، ثم ينغمس فى علاقة عميقة معه (وإن كانت موجزة فى بعض الأحيان).
تستكشف بعض الفصول صراعات اليساريين، واليساريين السابقين، للتصالح مع زوال الجبهة الشعبية، وظهور الاتحاد السوفيتى، باعتباره المنافس الجيوسياسى، والأيديولوجى الرئيسى للولايات المتحدة، قد يكون من الصعب اليوم التغلب على الألم الذى تنطوى عليه هذه التجربة، حيث أغرق الانهيار السوفيتى جيلًا كاملاً فى الماضى، لكن العديد من شخصيات ميناند، بلغت سن الرشد فى الثلاثينيات، عندما بدا الشيوعيون فى طليعة السياسات المناهضة للفاشية، والرأسمالية والمناهضة للعنصرية، مثلا تسبب الإدراك بأن جوزيف ستالين كان يقتل مئات الآلاف من مواطنيه، وإبقاء البقية فى عبودية ديكتاتورية شمولية، فى أزمة ضمير لدى اليسار، استغرقت عقدين حتى تكشفت، خرجت من تلك الأزمة بعض الأعمال الأساسية للفكر والأدب فى منتصف القرن، بما فى ذلك جورج أورويل 1984 (نُشرت فى عام 1949).
كان ميناند فى أفضل حالاته، عند تحليل الظروف والتأثيرات التاريخية، التى أنتجت كتابًا مثل 1984، وأعطته شهرة، غالبًا ما يتم تقديمه لطلاب اليوم كنقد مجرد للشمولية، وكان عام 1984 أيضًا تعليقًا محددًا للغاية على معضلات حياة ما بعد الحرب، بالاعتماد على الصور والأفكار التى وجدها أورويل من حوله.
لقد اقترض كثيرًا من الفيلسوف جيمس بورنهام، الشيوعى الأمريكى غريب الأطوار الذى تحول إلى محافظ، الذى تصور كتابه «الثورة الإدارية» الذى نُشر فى عام 1941، عالماً من القوى العظمى المتنافسة على غرار أورويل فى أوقيانوسيا وأوراسيا وإيستاسيا.
من خلال وضع أورويل، وشخصيات أخرى فى سياق تاريخى، يوضح ميناند، كيف يمكن للفن العظيم، أن ينبثق من مواقف الارتباك والوحل والرعب.
قلوب وعقول
صحيح أن كتاب لويس ميناند، «عالم حر.. الفن والثقافة فى الحرب الباردة»، يخصص عدة صفحات للأنشطة السرية لوكالة المخابرات المركزية، ورعايتها للآداب والمثقفين، لكن هذا جزء صغير فى كتاب يركز على تحليل السيرة الذاتية والثقافية للحرب الباردة، ليركز على نقطة مهمة وهى صراع المحافظين - فى أمريكا نفسها - مع التيار الليبرالى، كأنه يضعهم من طرف خفى فى صف الشيوعيين، الذين يرغبون فى تعطيل هيمنة الديموقراطية الليبرالية على العالم.
يقول ميناند: «وبالمثل، فإن أى نقاش حول التيارات المضادة من اليمين، الذى خضع لنهضة ثقافية، وفكرية خاصة به، فى منتصف القرن، هو متخلف بشكل مماثل، أسس ويليام ف. باكلى مجلة National Review فى عام 1955، على أساس أن «الأفكار لها عواقب» (وهى نفسها فكرة صاغها الكاتب المحافظ ريتشارد ويفر، فى عام 1948 فى كتاب بهذا العنوان)، أعلن المحافظون فى منتصف القرن، بما لا يقل عن نظرائهم الليبراليين، عن اعترافهم بقيمة الاستفزاز الفكرى وكان لديهم أيضًا منفيون من أوروبا، بمن فيهم الاقتصاديان فريدريك هايك، ولودفيج فون ميزس، حتى إن لديهم النادى الميتافيزيقى الخاص بهم: جمعية مونت بيليرين، التى تأسست على قمة جبل سويسرى فى عام 1947، من أجل جمع أفضل مفكرى السوق الحرة فى الغرب معًا فى توبيخ جماعى للنظام الليبرالى الناشئ.
بعض تلك المنظمات المحافظة، استهدف أهم مؤسسة للحياة الفكرية فى الحرب الباردة: الجامعة الأمريكية، حدد كتاب باكلى الأول «الله والرجل فى جامعة ييل»، الذى نُشر فى عام 1951، جامعته باعتبارها موقعًا للفكر الليبرالى الشنيع، بدءًا من قسم الاقتصاد الاشتراكى المفترض وامتدادًا إلى ثقافة التسامح الدينى.
يسلط كتاب ميناند، الضوء على الطرق التى كان نقد باكلى من خلالها صحيحًا جزئيًا على الأقل، إن لم يكن لجامعة ييل (التى كانت، بالمعنى النسبي، لا تزال معقلًا للمحافظة) ثم بالنسبة لنظام الجامعة الأمريكية بشكل كبير.
كان على رأس جدول أعمال ما بعد الحرب، الحلم بجعل الجامعات الأمريكية الأفضل فى العالم، بدءًا من قانون GI والتمويل الجديد للفنون والعلوم مع هذا التدفق للأموال، جاء جيل من المفكرين تجرأ على التفكير بشكل جديد ومختلف، لكنه مرتبط هيكليًا بالمشروع الليبرالى.
يعبر ميناند عن تضارب صعود الجامعة، كمركز للحياة الفكرية مع وعدها بالتوظيف الكامل للمثقفين، لامتصاص الطاقات الإبداعية فى المجالات العلمية المتخصصة، أعلن ليونيل تريلينج عند ترقيته إلى أستاذ فى جامعة كولومبيا: «أشعر بالخجل من الالتحاق بهذه الجامعة، أنا أتمتع بسمعة عظيمة فى العالم الأكاديمى، هذه الجامعة، هذا الفكر يجعلنى أتراجع».
كان من الصعب على آخرين، أن يقوموا برثاء للذات مثل تريلينج، كما يلاحظ ميناند، ويضيف: تم استبعاد العديد من المفكرين اليهود، على الرغم من أن أكثرهم طموحًا «تحولوا إلى صحفيين بدلاً من ذلك، وانتهى بهم الأمر بتأثير أكبر على الحياة الأدبية والفكرية، أكثر من تأثير معظم الأكاديميين على الإطلاق»، لكن قلة، مثل آرندت، حصلوا على درجات جامعية لائقة تم ترحيل الآخرين إلى كتابة المقالات اليدوية، والنشاط، وأحيانًا، كما فى حالة بالدوين، المنفى الاختيارى.
بحلول الوقت الذى أتيحت فيه الفرص لهم ليتم اعتبارهم حكامًا ثقافيين، كانت نهضة الثقافة العالية فى فترة ما بعد الحرب، فى حالة سقوط حر، وكانت أفضل حفلات العشاء قد انتهت بالفعل.
يعزو ميناند هذا الانهيار، إلى التحولات السياسية فى الداخل والخارج، دعت حركة الحقوق المدنية إلى التشكيك فى الصورة الذاتية للولايات المتحدة، باعتبارها معقلًا للمساواة الليبرالية (وهى محقة فى ذلك)، وبالمثل، تحدت حرب فيتنام حكمة المشروع الإمبراطورى الأمريكى، و»الأفضل والألمع» الذين صمموه فى الوقت نفسه، أدى التوسع السريع للثقافة الشعبية الجماهيرية، خصوصا فى صناعة التليفزيون والموسيقى، إلى إزاحة التركيز القصير بعد الحرب على الفن الرفيع والفكر.
الصين هى الهدف
نظرًا للطبيعة الحتمية لقصة ميناند، قد يكون من الصعب تخيل كيف يمكن للمرء أن يستعيد عالمًا، يُنظر فيه إلى الإنجازات فى الفنون الجميلة والموسيقى الكلاسيكية - أو التمويل القوى للجامعات العامة - على أنها طريق إلى القوة العالمية والإشادة الشعبية، إذا تم تصديق بعض المتنبئين الآن، فإن الولايات المتحدة تواجه حربًا باردة جديدة مع الصين. لكن يبدو من غير المحتمل، أن تنتج هذه الحرب الباردة أى نوع من نهضة الثقافة العالية، عوضا عن ذلك تركز أقوى الدعوات على زيادة تمويل الجامعات، وتحديدا على البحث العلمى والتكنولوجى، وهى المجالات التى يبدو أن النظام الصينى يتفوق فيها.
هناك القليل من القلق القابل للمقارنة، بشأن مستقبل الفنون والآداب الأمريكية فى الأربعينيات من القرن الماضى، أعرب الأمريكيون عن قلقهم العميق بشأن وضعهم كمؤثرين ثقافيين، بعد ما يقرب من قرن من الزمان، يبدو أن الثقافة الجماهيرية هى واحدة من المجالات القليلة، التى لا تزال فيها قوة الولايات المتحدة لا مثيل لها فى جميع أنحاء العالم.
كما أن الاستقطاب السياسى، لا يترك مجالًا كبيرًا لهذا النوع من الاستثمار من الحزبين (المقصود: احتضان اللاجئين من المفكرين والفنانين)، الذى جعل أشكالًا معينة من الإنتاج الثقافى ممكنة فى أوائل الحرب الباردة، حتى أكثر المؤيدين المخلصين لاستعادة «الحرب الباردة الجديدة»، لا يتصورون صراعًا أيديولوجيًا بالدرجة الأولى، يخوض فى تضاريس القلوب والعقول.
تركز مخاوف اليوم على المنافسة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، مع ابتكار ثقافى وفكرى، ومسائل بعيدة عن الحرية فى أحسن الأحوال.
إذا كان هذا يبدو سببًا للرثاء، فمن الجدير بالذكر أن الحرب الباردة المبكرة نفسها، كانت بالكاد فترة خالية من القلق فيما خص الحرية الأكاديمية والفنية، إن ادعاء ميناند بأن المثقفين والفنانين اليساريين الليبراليين، حققوا شهرة وتأثيرًا غير مسبوقين، صحيح بقدر ما يذهب.
لكن، كما أشار المؤرخ ريتشارد هوفستاتر فى ذلك الوقت، فإن الولايات المتحدة ترعى منذ فترة طويلة سلالة قوية مناهضة للفكر - بالنسبة للفنانين والكتاب، الذين عاشوا بالفعل خلال أوائل الحرب الباردة، يبدو أن هذه الفترة لم تكن بمثابة نهضة بقدر ما هى فترة رد فعل يمينى متطرف وحشى ومخيف فى كثير من الأحيان.
بعد كل شىء، لم يكن السياسى المحدد للعقد هو المرشح الرئاسى الديمقراطى الذكى، أدلاى ستيفنسون (الخاسر مرتين)، لكن السيناتور جوزيف مكارثى، السلف الروحى للسياسيين الجمهوريين الشعبويين «الكذبة الكبيرة» اليوم.
من الآمن القول، إذن، أن المبدعين لا يعرفون بالضرورة أنهم يعيشون فى عصر ذهبى، حتى عندما يكون الأمر كذلك تكتسب معظم الحياة الفكرية والفنية - آنذاك كما هى الحال الآن - توابلها من عدم الرضا عن العالم، خلال أوائل الحرب الباردة، أدى هذا الاستياء إلى فيض من الحزن واليأس والحيرة، وفى النهاية، حفنة من الاختراقات الإبداعية والفكرية مع البقاء على السلطة بعد لحظتها المباشرة، لا شك فى أن مخاوف اليوم ستلهم موجة الابتكار الخاصة بها فى الثقافة والفن والفكر العالى، من غير المرجح أن تكون تلك الإنجازات معروفة على نطاق واسع، وأن يتبناها، ويدعمها الملايين.
«عالم حر» أحد أفضل 100 كتاب فى نيويورك تايمز، لعام 2021، وأحد أفضل 50 كتابًا غير خيالى لصحيفة واشنطن بوست، لعام 2021 (المقصود هنا ليس كتابا روائيا، حيث يتم تصنيف الكتب فى الصحافة الأمريكية بكتب خيالية، وهى الروايات وغير خيالية لبقية الكتب التى تتناول التاريخ والنقد والفلسفة.. عبادة).
لم تكن الحرب الباردة، مجرد صراع على السلطة، كما كانت تتعلق بالأفكار بالمعنى الواسع الاقتصادية والسياسية والفنية والشخصية، فى The Free World، يروى الباحث والناقد الشهير، لويس ميناند الحائز على جائزة بوليتزر، قصة الثقافة الأمريكية فى السنوات المحورية من نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى فيتنام ويوضح كيف أن القوى الاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية، المتغيرة تركت بصماتها على إبداعات العقل.
كيف أفسحت النخبوية والتشكيك المناهض للشمولية، فى العاطفة والأيديولوجيا، المجال لإحساس جديد تم تحديده من خلال التجريب الحر، وحب فريق البيتلز؟ كيف تم تطبيق مبدأ «الحرية» على القضايا التى تراوحت من مناهضة الشيوعية، والحقوق المدنية إلى الأفعال الراديكالية، لخلق الذات من خلال الفن وحتى الجريمة؟ مع الفطنة والبصيرة المألوفة لقراء The Metaphysical Club ومقالاته فى نيويوركر، يأخذنا ميناند داخل مانهاتن لحنة آرندت، وباريس جان بول سارتر وسيمون دى بوفوار، وميرس كننغهام، وإقامات جون كيج فى كلية بلاك ماونتين بولاية نورث كارولينا، وستديو ممفيس حيث ابتكر سام فيليبس وإلفيس بريسلى موسيقى جديدة للمراهقين الأمريكييين.
يدرس رواج ما بعد الحرب، للوجودية الفرنسية والبنيوية، وما بعد البنيوية، وصعود التعبيرية التجريدية وفن البوب، وصداقة ألان جينسبيرج مع ليونيل تريلينج، وتحول جيمس بالدوين إلى متحدث باسم اليمين المدنى، وتحديات سوزان سونتاج لمفكرى نيويورك، هزيمة قوانين الفحش، وظهور هوليوود الجديدة، مشددًا على التدفق الثرى للأفكار عبر المحيط الأطلسى، كما يوضح كيف لعب الأوروبيون دورًا حيويًا فى الترويج والتأثير على الفن والترفيه الأمريكى.
بحلول نهاية حقبة فيتنام، فقدت الحكومة الأمريكية المكانة الأخلاقية التى كانت تتمتع بها فى نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن الثقافة الأمريكية التى كانت محتقرة فى يوم من الأيام أصبحت محترمة ومحبوبة مع حيوية ونطاق غير مسبوقين، يشرح هذا الكتاب كيف حدث ذلك.
يقول أليكس فون تونزيلمان، ناقد الفاينانشيال تايمز عن الكتاب: «العالم الحر كتاب متوازن بدقة: ليس تاريخًا للثقافة باعتبارها انعكاسًا لإيديولوجية الحرب الباردة، بل هو تاريخ للثقافة التى حدثت فى كل مكان حوله يتناول مجموعة مميزة من الشخصيات، مثل جورج أورويل، وجون لينون، إلى بيتى فريدان، ومالكوم إكس، وحنا آرندت، وجاك كيرواك، الذين شكلوا واحدة من أكثر الفترات روعة فى الثقافة الغربية والتى لا تزال بفضلهم أفكار الحرية محسوسة بعمق حتى اليوم».
ميناند مؤلف الكتاب
ولد ميناند فى سيراكيوز، نيويورك، ونشأ حول بوسطن فى 21 يناير 1952.
تخرج ميناند عام 1973 فى كلية بومونا، والتحق بكلية الحقوق بجامعة هارفارد، لمدة عام واحد (1973-1974)، قبل أن يغادر ليحصل على ماجستير (1975)، ودكتوراه (1980) فى اللغة الإنجليزية من جامعة كولومبيا.
درس بعد ذلك فى جامعة برينستون، وتقلد مناصب فى The New York Review of Books (محرر مساهم 1994-2001) وThe New Republic (محرر مشارك 1986-1987) وأسهم فى صحيفة نيويوركر، منذ عام 1991 ولا يزال كاتبًا فى فريق العمل.
فى عام 1988 تم تعيينه أستاذًا متميزًا للغة الإنجليزية، فى مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك، غادر جامعة مدينة نيويورك، لقبول وظيفة فى قسم اللغة الإنجليزية بجامعة هارفارد، فى عام 2003، كما قام بالتدريس فى جامعة كولومبيا، وكوينز كوليدج، وكلية الحقوق بجامعة فيرجينيا.
نشر كتابه الأول TS Eliot and His Context ، فى عام 1987 وكتابه الثانى، The Metaphysical Club: A Story of Ideas in America (2001 وهو سيرة ذاتية مفصلة عن Oliver Wendell Holmes Jr، حصل على جائزة بوليتزر للتاريخ لعام 2002، وجائزة فرانسيس باركمان لعام 2002، وجائزة هارتلاند للكتاب غير الخيالى فى عام 2002، نشر ميناند مجموعة دراسات أمريكية، وهى مجموعة مقالات عن شخصيات بارزة فى الثقافة الأمريكية.
وهو أستاذ آن ت. وروبرت إم باس للغة الإنجليزية بجامعة هارفارد، فى عام 2018، تم تعيينه لمدة 5 سنوات فى أستاذية عائلة لى سيمبكنز للفنون والعلوم.
مجال اهتمامه الأكاديمى الرئيسى، هو التاريخ الثقافى الأمريكى فى القرنين التاسع عشر، والعشرين، يقوم بتدريس النظرية الأدبية والتاريخ الثقافى بعد الحرب على مستوى الدراسات العليا والجامعية.
فى جامعة هارفارد، شارك فى تأسيس دورة تدريبية للطلاب الجدد تحتوى على محتوى فى الأدب والفلسفة، العلوم الإنسانية.