العميلة الإسرائيلية الراحلة إيزابيل بيدرو.. رواية غامضة من زمن اصطياد جواسيس الموساد


يعرف الكثيرون أسماء وتفاصيل نشاط جواسيس إسرائيليين مشاهير سقطوا في الدول العربية خلال ستينيات القرن العشرين، على رأسهم المصري المولد إيلي كوهين الشهير بـ"كامل أمين ثابت" الذي ضُبط بدمشق في يناير 1965 وأُعدم علنا في مايو من العام ذاته، وألماني المولد ڤولفجانج لوتز الذي ضُبط بالقاهرة في مارس 1965 وحُكم عليه في أغسطس من العام ذاته بالأشغال الشاقة المؤبدة ثم أفرجت عنه مصر في فبراير 1968 ضمن عملية تبادل للأسرى مع إسرائيل.
لكن اسم الجاسوسة الإسرائيلية إيزابيل بيدرو التي توفيت امس لم يكن معروفا قبل عام 2010 عندما نشرت صحيفة هآرتس تقريرا مطولا عنها وعن محاولات تجسسها في مصر بين عامي 1963 و1965 ودورها في نقل معلومات من مصر، والأهم من كل ما سبق -حسب زعم إسرائيل والجاسوسة نفسها- تفاصيل عن السد العالي إبان فترة إنشائه بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي.
توفيت إيزابيل بيدرو أمس الأحد في تل أبيب عن عمر يناهز 89 عاما، ونشرت هآرتس خبر وفاتها مصحوبا بصورتها مع ضابط الموساد المشرف عليها وقت عملها وهو رئيس الوزراء الإسرائيلي لاحقا إسحق شامير، والذي كان معروفا باسم رمزي "مايكل أو ميخائيل".
فما قصة هذه الجاسوسة التي تزامن عملها في مصر مع عمل اثنين من أهم جواسيس إسرائيل في المنطقة العربية، وهما إيلي كوهين وڤولفجانج لوتز؟
من الزيت الحار إلى دراسة الآثار:
كانت إيزابيل بيدرو شابة يافعة جميلة الملامح عندما تركت والديها في الأوروجواي وانتقلت إلى إسرائيل عام 1962، متأثرة بلقاء جمعها مع شباب اليهود والجماعات الصهيونية برئيسة الوزراء الإسرائيلية فيما بعد جولدا مائير في العاصمة الأوروجوانية مونتيڤيديو، حيث استبشرت جولدا بها خيرا ورأت فيها شابة حيوية وطموحة وعلى الرغم من ردها الجاف على بعض ملاحظاتها. قالت لها: نحن نحتاجك.
بدت إيزابيل وقتها وكأنها تبحث عن حياة جديدة بعيدا عن والديها اليهوديين اللذين رفضا ترك مصالحهما في أوروجواي (لحقاها إلى إسرائيل فيما بعد) خاصة بعد طلاقها من زوجها الأول والذي كان يهوديا أيضا، اقترنت به قبل أن تكمل العشرين عاما.
والد إيزابيل من مواليد بولندا وله أصول إسبانية يعكسها لقب العائلة النادر في الأوساط اليهودية الأوروبية "بيدرو"، هاجر إلى فلسطين في مطلع عشرينيات القرن العشرين ثم تركها إلى أوروجواي، حيث عمل مع أخته ثم أنشأ مصنعا لإنتاج زيت بذر الكتان (الزيت الحار).
تفوقت إيزابيل في دراستها واتسمت بالألمعية، تميزت في الهندسة والتصميم، وأحبت الجغرافيا والتاريخ والآثار، وفي عمر الثامنة والعشرين شعرت بإمكانية بدء حياة جديدة في إسرائيل فودعت مونتيڤيديو عام 1961 ومرت ببعض الموانئ الأوروبية قبل أن تصل يافا.
شأن المهاجرين الجدد الآخرين وفرت لها الحكومة الإسرائيلية إعانة مالية وألحقتها بمدرسة للغة العبرية، ومن احتكاكها بمجتمعها الجديد ومعرفة معلميها بإجادتها الإسبانية والفرنسية وبعض الإيطالية دخلت دائرة اهتمام الموساد.
بدأ ضباط الموساد جس نبض إيزابيل، التي شكت من مضايقاتهم في البداية، لكنها قبلت التحدي عندما بدأوا في إجراء اختبارات صعبة لقوة ذاكرتها وإمكانياتها الفنية في الرسم والشرح والتفصيل.
في ذلك الوقت كان الموساد يعمل بقوة على نشر جواسيس من أصول عرقية مختلفة في دول المواجهة، خاصة مصر وسوريا ولبنان، مع تعمد زرعهم داخل أوساط اجتماعية وسياسية ومهنية متفاوتة، فضلا عن تزامن عمل عدة جواسيس في دولة واحدة دون أن يتعرفوا على بعضهم البعض.
ووفقا للحوار الذي أجراه الكاتب الإسرائيلي شلومو نقديمون مع إيزابيل بيدرو ونشرته هآرتس عام 2010 وكتاب "أمازون الموساد" للكاتبين الإسرائيليين ميخائيل بار زوهار ونسيم ميشال الصادر عام 2021، فإن إيزابيل خُيّرت بين العمل في بعض الدول العربية، فاختارت مصر، نظرا لشغفها بالآثار المصرية ورغبتها في تعلم المزيد عنها وإمكانية استغلال لغاتها في الأوساط الاجتماعية والأكاديمية المصرية.
البداية من باريس:
بين مارس وأبريل 1963 سافرت إيزابيل بيدرو كمواطنة أوروجوانية من تل أبيب إلى باريس، والتقت هناك بالضابط ميخائيل، الذي لم يكن إلا إسحق شامير.
أعطاها شامير دروسا عن مصر وإسرائيل، ومعلومات مفصلة عن الشخصيات السياسية المصرية والأوضاع الاجتماعية والمشروعات الجارية، وكيفية استخدام شفرة مورس لإرسال المعلومات، كما أخبرها بتفاصيل فضيحة لافون التي لم تكن تعلم عنها شيئا، ربما لتحذيرها من مصير زملائها الأقدم.
فقبل تسع سنوات، وتحديدا في يوليو 1954، ألقت مصر القبض على 13 عميلا صهيونيا نفذوا عمليات تخريبية خطط لها وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك بنحاس لافون وعدد من مساعديه، بهدف عرقلة مفاوضات جلاء الإنجليز عن مصر ومنطقة قناة السويس، وصدر بحق العملاء أحكام بالسجن، حتى تضمنتهم عملية تبادل الأسرى عام 1988.
واللافت أن من بين المهام التي كُلفت بها إيزابيل بيدرو معرفة تفاصيل عن أحوال سجناء هذه القضية، لكنها لم تتمكن من ذلك، واعتبرت في تصريحاتها أن هذا كان "أكبر فشل لها في عمليتها التي استمرت ثلاث سنوات تقريبا".
وللتخلص من تاريخها في إسرائيل ببساطة؛ أفسد شامير جواز سفر إيزابيل الذي كانت به أختام الوصول والمغادرة الإسرائيلية، ومن ثم توجهت الشابة إلى سفارة أوروجواي في باريس لاستخراج جواز سفر جديد، ثم توجهت إلى القنصلية المصرية للحصول على تأشيرة دخول مصر بزعم أنها باحثة في الآثار، فحصلت عليها.
نشاطها (المزعوم) في مصر:
لم تصدر مصر أي معلومات عن نشاط إيزابيل بها كما لا يوجد لها ذكر في كتب مصرية.
ولذلك فإن الحقيقة الكاملة لما فعلته إيزابيل بيدرو في مصر تظل غامضة، ومحض رواية من طرف واحد.
ذكرت إيزابيل في حواراتها المعدودة تفاصيل كثيرة عن عمليتها -ربما لا تخلو من المبالغة- وإن كان لا يمكن التوثق منها من مصادر أخرى في الوقت الحالي.
قالت إنها عملت بجدية شديدة طوال فترة خدمتها بمصر، والتي استهلتها بالسكن لفترة في فندق سميراميس وبدأت في ترويج معلومات عن نفسها كباحثة أوروجوانية في الآثار المصرية القديمة بين المرشدين السياحيين والشخصيات المحلية التي كانت تتردد على الفندق، كما تعرفت من خلال محل الكوافير الذي كانت ترتاده في جاردن سيتي على صاحب بازار عرفها بدوره على أشخاص يتمتعون بحرية الحركة في مصر، منهم عالم آثار شاب.
وبمصاحبتها لهذا العالم في تحركاته تعرفت في فندق مينا هاوس المجاور لأهرامات الجيزة على صحفي مصري، وصفته بالكبير والقريب من الحكومة المصرية، عرفها بدوره بأحد الضباط، ثم تمكنت من دخول مجتمع نادي الجزيرة الذي كان يضم عددا معتبرا من ذوي المناصب البارزة من المصريين والأجانب، والذي كان يرتاده أيضا الجاسوس ڤولفجانج لوتز.
وادعت إيزابيل بيدرو أنها نقلت معلومات عن كيفية نقل المعدات العسكرية عبر السكك الحديدية إلى جنوب مصر والسودان، وطائرات روسية شاهدتها قابعة في مطار بالإسكندرية، وذلك أثناء رحلاتها تحت ستار المشاركة في أعمال أثرية مع العالم الشاب الذي أصبحت مقربة منه.
بالقرب من السد العالي:
في مايو 1964 حضر الزعيم السوڤيتي نيكيتا خروتشوف إلى أسوان للمشاركة مع الرئيس جمال عبدالناصر في حضور اللحظة التاريخية لتحويل مجرى النيل، ضمن المشروع القومي لإنشاء السد العالي، وقد كانت هذه لحظة مهمة في تاريخ العلاقات بين مصر والاتحاد السوڤيتي، فضلا عن رمزيتها الدولية والاستراتيجية الهامة وقت اشتعال الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن.
وزعمت إيزابيل بيدرو أنها أقامت في فندق كتاراكت بأسوان خلال إقامة خروتشوف به، وجلست بجواره مباشرة في المطعم.
لكن الأهم هو زعمها التمكن من الحصول على ملف به قدر كبير من الرسومات الهندسية للسد العالي، حصلت عليها من شخص نافذ خلال إقامتها في أسوان قدمت له نفسها كمهندسة معمارية إلى جانب اهتمامها بالآثار، وعبرت له عن إعجابها بمشروع السد فقرر إهداءها ملفا يتضمن الرسومات الهندسية.
وتدعي إيزابيل بيدرو أنها تعرفت على متن باخرة نيلية على سائحين من إسبانيا فقررت تسريب الملف خارج مصر من خلالهما، فأعطتهما إياه داخل ظرف مغلق وأفهمتهما أنه ملف عائلي مهم وأن شخصا قريبا لها سيستقبلهما في إسبانيا لتسلمه!
وفي حوار لها عام 2012 مع موقع "ماكوريشون" الإسرائيلي عبرت إيزابيل عن سعادتها بنجاحها في ذلك قائلة: "كنت أتحمس للغاية عندما أشاهد الآليات العسكرية المصرية تتحرك لكني لا أستطيع أن أفعل شيئا لها، وفكرت أن أهم ما يمكن تقديمه أن تستطيع إسرائيل تفجير السد العالي بقنبلة".
الخوف أدى إلى إنهاء المهمة:
دخلت إيزابيل مصر مصطحبة معها جهاز شفرة مورس صغير في حقيبة خشبية مخبأة داخل حاجياتها، واشترت جهاز إرسال قصير المدى لاستخدامه في بث الشفرة.
ونقل الكاتب الصحفي الإسرائيلي شلومو نقديمون (والذي عمل في شبابه مستشارا إعلاميا لرئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحم بيجن) عن إيزابيل بيدرو أنها استشعرت خطورة استخدام بث شفرة موريس من مصر -والتي أدت إلى ضبط إيلي كوهين في سوريا- فكانت حريصة على إرسال المعلومات بطرق مختلفة.
وخلال فترة عملها غادرت مصر ثلاث مرات، التقت في الأخيرة شامير في باريس وأخبرها أنه سيترك العمل في الموساد.
يتوقع مراقبون أن الصراعات بين مديري الموساد في عام 1965 بسبب الإخفاقين المتتاليين لإيلي كوهين بدمشق وڤولفجانج لوتز بالقاهرة، كانت من أسباب إنهاء إيزابيل بيدرو لمهمتها.
ويتهم مؤرخون وسياسيون إسرائيليون إدارة الموساد في ذلك الوقت بالتسبب في عدد من الفضائح كما حدث في حالتي كوهين ولوتس، بسبب كثافة تشغيل العملاء وتحضيرهم سريعا دون الاهتمام بالتفاصيل وبالضغط الهائل عليهم لجلب المعلومات دون الاكتراث لأمنهم الشخصي، إلى جانب تداول نظريات أخرى بأن الموساد نفسه كان مُخترقا بسبب تعدد جنسيات وخلفيات العملاء، وتحول بعضهم إلى جواسيس مزدوجين.
بينما يرجح الكاتب الصحفي أرييل بولشتاين في مقال له عن إيلي كوهين نشره عام 2020 في موقع "إسرائيل هيوم" أن سقوط كوهين جاء بسبب الضغط الكبير من رئيس الموساد مائير عاميت عليه لإرسال معلومات دون تأمينه بالشكل الكافي، وأن ما حدث له وللوتز دفع إيزابيل بيدرو إلى طلب إعفائها.
عادت إيزابيل إلى إسرائيل عام 1965 وخضعت لتحقيق واسع لتوثيق نشاطها بالكامل، وعُرضت عليها وظيفة بالجيش الإسرائيلي لكنها رفضت، وبدأت دراسة التصميم المعماري ثم الديكور، وانطلقت في مسيرة مهنية جديدة.
تزوجت إيزابيل بيدرو من رجل الأعمال والسياسي الإسرائيلي اليميني بنعامي كابلان والذي تولى مناصب سياسية متوسطة بحزب الليكود.
وتبقى قصة الجاسوسة الإسرائيلية الراحلة غامضة ومحل التباس كبير نظرا لعدم وضوح النتائج الرئيسية لعملها في مصر، علاوة على غياب التوثيق الرسمي الكامل لها من الموساد على الرغم من تكريمها سابقا.