غزة.. «الحشاشين».. وحركة النشر
حلمي النمنم أخبار مصر 2050عدد الناشرين ودور النشر فى ازدياد عامًا بعد عام، صحيح أن بعض دور النشر العريقة، ذات الإسهام الثقافى منذ أربعينيات القرن الماضى، تعرضت فى السنوات الأخيرة لأزمات حادة، انتهت بها إلى الإغلاق، خلافات الورثة أو عدم القدرة على الصمود فى سوق المنافسة، لكن فى المقابل تظهر دور نشر جديدة، عدد غير قليل منها حقق نجاحًا وأثبت حضوره فى عالم النشر، بما يثرى حياتنا الأدبية والفكرية، فى سنوات التسعينيات كان أعضاء اتحاد الناشرين المصريين أقل من مائة مشترك، حاليًّا تجاوز الرقم ألفًا وثلاثمائة، بخلاف مئات قيد الانتظار، وهذا يعنى أن النشر مهنة جاذبة، رغم الأزمات الطارئة بخصوص تضاعف أسعار الورق والأحبار وخلافه، يبدو أنها مهنة مربحة، لنقل ممتعة أيضًا لمن يقدم على ممارستها، هناك إقبال يتزايد على القراءة، خاصة مع ارتفاع نسبة التعليم وازدياد أعداد المدارس وكذلك الجامعات، معارض الكتاب فى ازدياد وما زال بالإمكان مضاعفتها، بحيث يكون لكل مدينة معرضها الخاص وكذا كل جامعة، لدينا أكثر من مائتى مدينة وحوالى مائة جامعة وأكاديمية، وقد عرفت مصر معرض الكتاب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وليس سنة ١٩٦٩، كما يتصور معظمنا.
والحق أن دور النشر، منذ ظهورها الأول فى أواخر عصر محمد على وحتى اليوم، تقدم لنا باستمرار أسماء جديدة لكتاب مبدعين وباحثين فى مختلف جوانب المعرفة والعلم، فضلًا عن اتجاه بعض الدور إلى الاهتمام بالأعمال المترجمة إلى العربية، خاصة فى مجال الرواية.
هذه كلها عوامل تدفع للرضا والاطمئنان على نشر الكتاب فى مصر وفى المحيط العربى كله، وإلى ألا نتخوف مما يشيعه بعضنا عن أن الكتاب الورقى إلى زوال، حتى لو حدث ذلك فإن الكتاب سيبقى ولكن عبر وعاء وغلاف آخر، صوتا أم كلثوم وعبدالوهاب ما زالا يطرباننا رغم اختفاء الأسطوانات والكاسيت.
غير أن هناك عوامل أخرى، فى الأفق، تثير القلق، مثل تزوير وقرصنة الكتاب ومثل عدم احترام البعض قوانين وحقوق الملكية الفكرية وقواعد الأمانة العلمية، هذه الأمور ليست فى يد ولا مسؤولية الناشرين وحدهم، هناك أطراف أخرى عديدة ومؤثرة.
لكن هناك أمور تتركز فى يد الناشرين ودور النشر، من بينها أن حركة النشر تتواكب مع الجديد والطارئ فى حياتنا العامة اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، تصبح جزءًا منها، بالإضافة المعرفية والعلمية.
فى مطلع القرن العشرين كان مصطلح «الديمقراطية » من المصطلحات المشبوهة والمدانة، ونعرف جميعًا كيف فشل أحمد لطفى السيد فى انتخابات المجلس التشريعى فى دائرته بمركز السنبلاوين دقهلية، لأنه تمسك بكونه ديمقراطيًا، لم يتراجع ولم يناور ولا اعتذر عن فكرته، كانت الديمقراطية فى وعى الناخبين أنها نظام يقر «زواج المحارم» ويتيح للمرأة الجمع بين «أربع أزواج»، وهكذا يصبح رفض الديمقراطية موقفًا أخلاقيًا ودينيًا، لكن لطفى السيد لم يستسلم ولا أمسك العصا من المنتصف، راح يترجم كتاب أرسطو «فى السياسة»، الذى يقوم على قاعدة «الإنسان حيوان مدنى»، ثم قامت لجنة التأليف والترجمة والنشر، أسسها أحمد أمين وآخرون، بترجمة ونشر أكثر من كتاب عن الديمقراطية، لنفض الزيف السائد عنها ونشر أهميتها الوطنية والسياسية، فى تلك الفترة المبكرة صدرت عدة عناوين حول الديمقراطية، وهكذا الحال فى العديد من القضايا والمواقف العامة.
فى الفترة الأخيرة تعرضنا لأكثر من أزمة وموقف، كان يجب أن تنشط حركة النشر مع كل منها، أبرزها ما يجرى فى فلسطين المحتلة، منذ أكتوبر الماضى، من عملية إبادة يبدو جيدًا أنها مقصودة للشعب الفلسطينى، ومن المعروف أنه منذ مطلع القرن الماضى لدينا كتابات مهمة حول القضية الفلسطينية، ومنذ سنوات الأربعينيات صدرت عشرات الكتب المعمقة حول هذه القضية، وبعد عام النكبة وحتى ارتفاع موجة «الربيع العربى» لم تتوقف العقول العربية عن تقديم الجديد فى كتب ودراسات متميزة، الأسماء عديدة وكبيرة من الأمير شكيب أرسلان والشيخ رشيد رضا وشبلى شميل ثم جورجى زيدان وبعده محمد عوض محمد ومحمد رفعت والعقاد ثم حامد ربيع وحسن ظاظا وعبدالوهاب المسيرى ورشاد الشامى وقدرى حفنى وغيرهم كثر من المتخصصين فى العلوم السياسية والتاريخ والقضايا الوطنية بشكل عام، وكان المتوقع أن تتنافس دور النشر فى إعادة إصدار بعض هذه العناوين أو تلجأ إلى باحثين جدد من المتخصصين والدارسين لهذه القضية وهم كثر، كى يعدّوا دراسات جديدة، فضلًا عن السعى إلى ترجمة ما يصدر فى الخارج حول القضية والأزمة نفسها، كنت أتوقع أن تكون مثل هذه العناوين هى المسيطرة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، لكن خاب توقعى، ولا أفهم سر هذا التكاسل، أم أنهم يرونها بعيدة عن الاهتمام ويكفى التناول الإعلامى المتواصل لها؟!.
وخلال شهر رمضان بدأ عرض مسلسل «الحشاشين»، وهو واحد من أهم الأعمال الدرامية التى تقدمها الشاشة المصرية فى السنوات الأخيرة قاطبة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، يفتح المسلسل ملف الشخصية الأكثر دموية فى التاريخ الإسلامى، القتل غيلة تحديدًا، «حسن الصباح»وجماعته، فضلًا عن الجماعات الباطنية كلها، وإذا كانت الدراما المصرية لم تنتبه إلى هذه القضية إلا هذا العام، فإن المكتبة العربية عامةً والمصرية خاصةً، كانت مهتمة منذ عقود طويلة، لدينا عشرات العناوين، بعضها مصادر أولى مثل كتاب الشهرستانى «الملل والنحل» الذى حققه ابن كلية أصول الدين بجامعة الأزهر د. محمد فتح الله بدران سنة ١٩٤٧، ثم توالت النشرات له بعد ذلك وبأكثر من تحقيق، وكذلك كتاب حجة الإسلام أبوحامد الغزالى «فضائح الباطنية»، الذى حققه وقدم له الفيلسوف الراحل عبدالرحمن بدوى، يضاف إلى ذلك كتاب ابن الأثير «الكامل فى التاريخ» وأعمال تقى الدين المقريزى وسواهم، وهناك كتب تعد مراجع، بعضها عام وبعضها متخصص، فضلًا عن الكتب الثقافية العامة، مثل كتاب عباس محمود العقاد «فاطمة الزهراء والفاطميين»، يُضاف إلى ذلك الأعمال المترجمة حول هذه الجماعة وهى عديدة، كتاب برنارد لويس نموذجًا وكذلك المواد الموسعة التى وردت حولها فى دائرة المعارف الإسلامية، ولدينا موسوعة الفرق والمذاهب الإسلامية التى أصدرتها وزارة الأوقاف فى عهد الراحل الكبير د. حمدى زقزوق، قام فريق علمى موسع بوضعها وكانت تباع بجنيهات قليلة للنسخة.
ومن يتابع الحركة العلمية فى جامعاتنا، خاصة فى تخصصات علم الكلام والفلسفة الإسلامية وكذا التاريخ والدراسات الإسلامية، يعرف أن هناك عشرات الرسائل الجامعية أنجزت فى هذا الباب، معظمها حبيس أرفف المكتبات المركزية بجامعاتنا.
مرة أخرى كنا وما زلنا ننتظر صدور طبعات جديدة من تلك المصادر والمراجع والكتب العامة، تنير هذا الملف الشائك، خاصة أن القرن العشرين وإلى يومنا هذا شهد محاولات استنساخ حسن الصباح ومن هم على شاكلته، لكن حتى الآن لم نجد شيئًا ذا بال. هل هو كسل وتراخٍ أم عدم اهتمام أم أنه تجاهل متعمد خوفًا من بطش أو إغراء روبوتات حسن الصباح فى عصرنا؟!.
أعرف أن معظم دور النشر تعمل بطريقة أن يسعى المؤلف أو الباحث لديها بعمله، ثم تسير العملية فى الطريق المعروف للنشر، وهذا طيب، فى جانب، لكن هناك طريقة إضافية وهى أن تبحث دار النشر عن كاتب وتطلب إليه أو يتم «تكليفه»، وفق التعبير الصحفى بإعداد مادة أو دراسة فى موضوع وقضية حالة يجب الاهتمام بها والتركيز عليها بتقديم خدمة للقارئ الذى ينتظر ويحتاج تلك المادة العلمية.
هنا ينبغى أن يكون الناشر هو المبادر باقتراح الموضوع، ما أعرفه يقينًا أن ذلك كان يحدث فى أقسام النشر بالمؤسسات الصحفية، عدد من أعمال العقاد وتوفيق الحكيم وغيرهما، كانت فى الأصل اقتراحات من إدارة النشر، ومن يقرأ مقدمة كتاب محمد حسنين هيكل «ملفات السويس» يجد أن فكرة الكتاب كانت اقتراحًا من دار النشر الإنجليزية كى يصدر الكتاب سنة ١٩٨٦، بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على حرب السويس، كانت دار النشر تريد تقديم شرح للحرب بقلم مصرى عايش الحدث، كانت هناك رؤية بريطانية وأخرى إسرائيلية فأرادوا إكمال الصورة بالرؤية المصرية وهكذا بادروا إلى الاتصال به وعرض الفكرة عليه.
هذا التكاسل عن تلبية احتياجات القراء إلى العلم والمعرفة يسلمهم إلى مصد آخر هو الذباب الإلكترونى، حيث الشائعات والترهات حينًا والمعلومات المغلوطة أو المكذوبة حينًا، فى أفضل الأحوال أنصاف الحقائق.